فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره. فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار؛ عليها رجال يعرفون أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم.. فلننظر من هؤلاء، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
{وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}..
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف- الحجاب الحاجز بين الجنة والنار- جماعة من البشر، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار.. وهم بين بين، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته.. وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم- ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم- ويعرفون أهل النار بسيماهم- ربما بسواد الوجوه وقترتها، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا، كالذي جاء في سورة القلم:
{سنسمه على الخرطوم}! وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام.. يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم!.. فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار- وكأنما يصرفون إليهم صرفًا لا عن إرادة منهم- استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم!
{وعلى الأعراف رجال يعرفون كلًا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}..
ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم. فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيب:
{ونادى أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون}!
فها أنتم هؤلاء في النار، لا جمعكم نفعكم، ولا استكباركم أغنى عنكم!
ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون، لا ينالهم الله برحمة: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة}!
انظروا الآن أين هم؟ وماذا قيل لهم: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}..
وأخيرًا. ها نحن أولاء نسمع صوتًا آتيًا من قبل النار، ملؤه الرجاء والاستجداء: {ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}!
وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير: {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا}..
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى، لينطق رب العزة والجلالة، وصاحب الملك والحكم: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوبًا.. لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا. لمحة مع المعذبين في النار، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين. فصله الله سبحانه على علم- فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون.. ولمحة معهم- وهم بعد في الدنيا- ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل. فالمآل هو ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال!
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب!
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقًا مع الابتداء. تذكيرًا بهذا اليوم ومشاهده، وتحذيرًا من التكذيب بآيات الله ورسله، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله، حيث لا فسحة لتوبة، ولا شفاعة في الشدة، ولا رجعة للعمل مرة أخرى.
نعم.. هكذا ينتهي الاستعراض العجيب. فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه.
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء! إنها رحلة الحياة كلها، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها.. ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها! وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان. يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون.. كله في لمحات.. لعلها تتذكر، ولعلها تسمع للنذير: {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {هل ينظرون إلا تأويله} قال: عاقبته.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يوم يأتي تأويله} قال: جزاؤه {يقول الذين نسوه من قبل} أعرضوا عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يوم يأتي تأويله} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {يوم يأتي تأويله} قال: عواقبه مثل وقعة بدر والقيامة وما وعد فيه من موعد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في الآية قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة، حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ، ففي ذلك أنزل {يوم يأتي تأويله} حيث أثاب الله أولياءه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول يومئذ {الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {يوم يأتي تأويله} قال: تحقيقه. وقرأ {هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] قال: هذا تحقيقها، وقرأ {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] قال: ما يعلم تحقيقه إلا الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وضل عنهم ما كانوا يفترون} قال: ما كانوا يكذبون في الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ما كانوا يفترون} أي يشركون. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قد تقدَّم الكلام على {تَأويله} في [آل عمران 7].
وقال الزَّمخشريُّ هاهنا: والتَّأويل مادته من همزة وواو ولام، مِنْ آل يؤول.
وقال الخطابي: أوَّلْتُ الشيء رَدَدْتُهُ إلى أوله، واللفظة مأخوذة من الأول، وهو خطٌ؛ لاختلاف المادتين والتأويل مرجع الشّيء ومصيره من قولهم: آل الشَّيءُ يئول.
واحتجَّ بهذه الآية من ذهب إلى أنَّ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] أي: وما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا اللَّهُ.
قوله: {قَدْ جَاءَتْ} مَنْصُوبَة بالقول و{بالحَقِّ} يجوز أن تكون الباء للحالِ، وأن تكون للتعدية أي: جاءوا ملتبسين بالحق، أو جاءُوا الحقّ.
والمعنى: أقرُّوا بأنَّ الذي جاءت الرُّسُلُ به من ثُبُوتِ الحَشْرِ، والنَّشْرِ، والبَعْثِ والقيامة، والثواب، والعقاب، كل ذلك كان حقًا؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها.
قوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء} {من} مزيدة في المبتدأ و{لنا} خبر مقدَّم، ويجوز أن يكون {مِنْ شُفَعَاء} فاعلًا و{مِنْ} مزيدة أيضًا، وهذا جائز عند كل أحد لاعتماد الجار على الاستفهام.
قوله: {فَيَشْفَعُوا} منصوب بإضمار أنْ في جواب الاستفهام فيكون قد عطف اسمًا مؤولًا على اسم صريح، أي: فهل لَنَا من شفعاء بشفاعة منهم لنا؟
قوله: {أوْ نُرَدُّ} الجمهور على رفع {نُرَدُّ} ونصب {فَنَعْمَلَ}، فرفع {نردُّ} على أنَّه عطف جملة فعليّة، وهي {نُردُّ} على جملة اسميّة وهي: هل لنا من شُفَعَاء فيشفَعُوا؟
ونصب {فَنَعْملَ} على ما انتصب عليه {فَيَشْفَعُوا}، وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدَّم، كذا روى عنه ابن عطية وغيره، وروى عنه الزمخشري نصب {نُرَدَّ} ورفع {فنعملُ}.
وقرأ أبُوا حَيْوَةَ، وابن أبي إسحاقَ بنصبهما فنصب {نردَّ} عطفًا على {فَيَشْفَعُوا} جوابًا على جواب، ويكون الشفعاء في أحد شيئين: إمَّا في خلاصهم من العذابِ، وإمِّا في رجوعهم للدُّنيا ليعملوا صالحًا، والشَّفَاعَةُ حينئذ مستحبة على الخلاص أو الرَّدّ، وانتصب {فَنَعْمَلَ} نسقًا على {فُنردَّ}.
ويجوز أن تكون {أوْ نُرَدَّ} من باب لألزمنَّك أو تقضيني حقّي إذا قدرناه بمعنى: حتّى تقضيني، أو كي تقضيني، غَيَّا اللزوم بقضاء الحق، أو علله به فكذلك الآية الكريمة أي: حتى نُرَدَّ أو كي نرد، والشفاعة حينئذٍ متعلِّقَةٌ بالرَّدِّ ليس إلاَّ.
وأمَّا عند من يُقدِّر و{أو} بمعنى إلاّ في المثال المتقدم وهو سيبويه، فلا يظهر معنى الآية عليه؛ إذ يصير التقدير: هل يشفع لنا شفعاء إلا أن نردّا، وهذا استثناء غير ظاهر.
قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
{ما كانوا} {ما} موصولة عائدها مَحْذُوفٌ، و{مَا كَانُوا} فاعل {ضلَّ}، والمعنى: أنَّهُم لم ينتفعوا بالأصْنَامِ التي عبدوها في الدُّنْيَا.
أهـ.. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}
إذا كُشِفَ جلالُ الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطيةُ الرَّيب، فلا بكاء لهم يَنْفَع، ولا دعاء منهم يُسْمَع، ولا شكوى عنهم ترْفَع، ولا بلوى من دونهم تُقْطَع. اهـ.

.من فوائد النسفي في الآيات السابقة:

قال عليه الرحمة:
{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}
حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد والتعاطف، وعن علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} حال من هم في {صُدُورُهُمْ} والعامل فيها معنى الإضافة {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان {وَمَا كُنَّا} {مَا كُنَّا} بغير واو: شامي على أنها جملة موضحة للأولى {لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} اللام لتوكيد النفي أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله، وجواب {لولا} محذوف دل عليه ما قبله {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} فكان لطفًا لنا وتنبيهًا على الاهتداء فاهتدينا، يقولون ذلك سرورًا بما نالوا وإظهارًا لما اعتقدوا {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة} {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، والجملة بعدها خبرها تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة.